رغم اتفاق وقف إطلاق النار.. الإنسانية تتآكل في غزة مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية
رغم اتفاق وقف إطلاق النار.. الإنسانية تتآكل في غزة مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية
لم تنتهِ معاناة سكان قطاع غزة رغم مرور سبعة أسابيع على اتفاق وقف إطلاق النار، فبينما كان المفترض أن تشكل الهدنة فسحة أمان للمدنيين ونافذة لالتقاط الأنفاس، كشف مركز غزة لحقوق الإنسان الخميس عن حصيلة صادمة لما سماه القتل المستمر تحت ظل وقف إطلاق النار.
وأكد المركز أن قوات الجيش الإسرائيلي قتلت 350 فلسطينيا خلال سبعة وأربعين يوما، بينهم ما يقرب من 200 من الفئات الأكثر هشاشة من أطفال ونساء ومسنين، وهي حصيلة تعكس استمرار الخطر الوجودي الذي يعيشه أكثر من مليوني إنسان في القطاع رغم كل الوعود الدولية والالتزامات المعلنة.
وفق بيان المركز الحقوقي تشير روايات فرق الرصد الميداني التابعة للمركز إلى نمط يومي ثابت من الانتهاكات لم يتوقف لحظة منذ العاشر من أكتوبر، تاريخ بدء تنفيذ الاتفاق، وتتنوع هذه الخروقات بين قصف جوي ومدفعي، وتوغلات برية، واستهداف مباشر للمدنيين، إلى جانب إجراءات تضييق خانقة تمس حياة السكان مثل تقييد وصول المساعدات الإنسانية ومنع الحركة والسفر، ويرى المركز أن هذا السلوك يعكس غياب أي نية حقيقية لدى الجيش الإسرائيلي لوقف العمليات العسكرية، وأنه امتداد واضح لمسار مستمر من الإبادة الجماعية التي تعرّض لها سكان قطاع غزة على مدار عامين.
تكشف البيانات الميدانية أن عددا كبيرا من الشهداء سقطوا داخل مناطق مصنفة آمنة وفق الخط الأصفر المحدد في الاتفاق، وبين الضحايا 130 طفلا و54 امرأة و14 مسنا، كما أصيب 889 مواطنا، يشكل الأطفال والنساء والمسنون أكثر من نصفهم، وتوصّف شهادات الأهالي مشاهد دمار مباغت داخل أحياء كان يفترض أن تكون محمية، ما يؤكد أن الاتفاق لم يوفر أي حصانة فعلية للسكان.
خريطة انسحاب لم تُحترم
أحد أبرز جوانب الإخلال بالاتفاق يتمثل في عدم التزام السلطات الإسرائيلية بخريطة الانسحاب المتفق عليها، فالقوات الإسرائيلية واصلت فرض سيطرة نارية داخل المناطق المدنية، ونفذت عمليات تدمير هندسي يومية استهدفت منازل كانت قد نجت سابقا من عمليات الهدم خلال عامي الحرب، وبهذا ظل المشهد العمراني في غزة في تدهور متسارع، بينما يزداد عدد العائلات التي تجد نفسها بلا مأوى أو حماية.
وعلى صعيد الوضع الإنساني، أكد المركز الحقوقي أن تدفق المساعدات ما يزال خاضعا لقيود مشددة، فرغم إعلان إسرائيل السماح بدخول نحو 600 شاحنة مساعدات يوميا، فإن الرقم الفعلي لم يتجاوز 211 شاحنة، كما بقي القطاع محرومًا من الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات المياه والصرف الصحي والمخابز، وتعطلت آلاف الشاحنات التي تحمل مواد طبية وغذائية عند المعابر بانتظار موافقات لا تصل، ويشير المركز إلى أن هذه السياسة تتسبب في حرمان السكان من أساسيات الحياة مثل الغذاء والماء والسكن، وتفاقم وضع المجاعة وسوء التغذية الذي اجتاح مختلف مناطق القطاع.
بالإضافة إلى ذلك، تواصل السلطات الإسرائيلية إغلاق معبر رفح في الاتجاهين، مانعا حركة السفر حتى للحالات الإنسانية الحرجة، كما تحتجز سلطاته مئات المعتقلين الفلسطينيين، وترفض الكشف عن مصيرهم، فيما تصل للمركز شهادات مروعة من معتقلين أفرج عنهم تتحدث عن اختفاء قسري وسوء معاملة وتعذيب وعنف جنسي، ويصف المركز هذه الممارسات بأنها جزء من منظومة انتهاكات واسعة تتجاوز الخروقات العسكرية، وتمس النسيج الاجتماعي والنفسي للسكان.
الهدوء الغائب والكارثة
بعد سبعة وأربعين يوما على اتفاق يفترض أنه يوقف إطلاق النار، لم يتحقق للسكان شيء من معاني الهدنة، فما زالت حياة المدنيين واقعة تحت تهديد واضح، وما زال المشهد الإنساني بالغ القسوة، وحتى التقلبات الجوية الأخيرة كشفت هشاشة حياة النازحين، حيث غرقت مئات الخيام تحت مياه الأمطار، لتتجسد معاناة الناس بين مطر يقلب مساحات اللجوء إلى برك طينية وبين قصف يباغتهم حتى داخل مناطق يفترض أنها آمنة.
حذّر المركز الحقوقي من أن استمرار الصمت الدولي يوفر غطاء سياسيا لمواصلة الاعتداءات، داعيا المجتمع الدولي إلى كسر دائرة العجز واتخاذ خطوات جادة لحماية المدنيين، وأكد أن الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف تتحمل مسؤولية مباشرة في فتح تحقيقات شفافة وتفعيل آليات المساءلة والضغط لوقف الانتهاكات فورا، ويرى المركز أن أي وقف فعلي لإطلاق النار يتطلب مراقبة دولية جادة وفتح المعابر واستعادة الحقوق الأساسية للسكان، وأبرزها الحق في الأمان والطبابة والغذاء والسكن.
انهيار قدرات الدفاع المدني
وفي موازاة هذا المشهد، أعلن جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة أن نصف خدماته قد توقفت فعليا بسبب نفاد الوقود اللازم لتشغيل الآليات والمعدات، وأصبحت فرق الإنقاذ عاجزة إلى حد كبير عن الوصول إلى آلاف المباني التي تصنف كخطرة أو مهددة بالانهيار، كما باتت عمليات البحث والانتشال مهددة بالتوقف الكامل، ويحذر الجهاز من أن تعطّل الاستجابة للحرائق والانفجارات وحوادث الانهيار يضع حياة المدنيين في دائرة خطر مباشر، وتظهر الأزمات المتلاحقة صعوبة تشغيل مولدات الطاقة داخل مراكز الدفاع المدني ونقاط الإسعاف، ما يجعل قدرات الطوارئ على شفا الانهيار الشامل.
يخلص مركز غزة لحقوق الإنسان إلى أن ما يجري ليس حوادث متفرقة أو خروقات معزولة، بل امتداداً لمسار طويل من الاضطهاد الجماعي يستهدف البيئة الحياتية للسكان ويقوّض سبل الحياة الكريمة، ويرى أن غزة تحتاج اليوم إلى حماية حقيقية، لا إلى اتفاقات شكلية تبقى حبرا على ورق، وأن سكانها بحاجة إلى إنصاف وعدالة تعيد لهم حقهم في الحياة والأمن والكرامة.
يذكر أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر جاء بعد عامين من حرب شديدة الوطأة أودت بحياة عشرات الآلاف ودمّرت البنية التحتية الأساسية في القطاع.
وبموجب الاتفاق، كان من المفترض وقف كل العمليات العسكرية وفتح ممرات إنسانية آمنة وتسهيل دخول المساعدات والوقود وضمان حرية تنقل المدنيين وحماية المنشآت الصحية، إلا أن الأسابيع الماضية شهدت خروقات يومية واسعة النطاق، وأظهر الواقع الميداني فجوة كبيرة بين الالتزامات المعلنة والتطبيق الفعلي، كما أعادت هذه الخروقات طرح أسئلة جوهرية حول فعالية آليات الرقابة الدولية وإمكانية فرض التزامات قانونية على الأطراف المتحاربة، في وقت يتصاعد فيه القلق العالمي من اتساع الكارثة الإنسانية في غزة واستمرار تهديد حياة السكان رغم إعلان وقف العمليات العسكرية.











